إنّ التأريخ النضالي والاستشهادي لمدينة مساكن يرقى إلى فترة تأسيسها وتتوفر لدينا في هذا الصدد أدلة عن تعلق سكان هذه المدينة بالقيم والشرعية مهما كلفهم الأمر من تضحيات وهم يراهنون على الطّرف الخاسر دون اعتبار مصلحتهم الذاتية متى رأوا أنه أقرب إلى القيم والأخلاق من خصمه.
فناصروا الملك الشرعي حسين باي المتغلب عليه ابن أخيه السفّاك علي باشا حيث واجهوا جيش هذا الأخير الذي يقوده ابنه يونس ونالوا لذلك شر التنكيل وسقط من بينهم عديد الشهداء.
وأورد في هذا الصدد المؤرخ محمد الصغير بن يونس المعاصر لهذه الأحداث المسماة بـ “الفتنة الباشية” التي جدّت في أوائل القرن الثامن عشر في كتابه المشرع المالكي ما يلي: “حاول أهل مساكن مقاومة رجال يونس باي ودارت معارك في الشوارع أسفرت عن قتلى من الجانبين.”
وانتصر أهالي مساكن تحت حكم المشير أحمد باي في منتصف القرن التاسع عشر لأشقائهم المسلمين على التخوم الروسية العثمانية، وتألف الجيش الذي شارك في حرب القرم بين العثمانيين والروس مما ينيف عن ستة آلاف جندي استشهد أو جرح منهم الكثيرون منهم مئات من مساكن بين ضباط سامين وضباط عاديين وجنود أدرجت أسماؤهم في ثماني صفحات من الحجم الكبير عثرتُ عليها في الأرشيف الوطني العسكري.
محطة هامة في تاريخ مساكن وشهدائها تتمثل في قيادتها لثورة الساحل التي اندلعت سنة 1864 ضد ظلم الباي محمد الصادق ووزيره المفسد خزندار .. كل المؤرخين تحدثوا عما سموه الكتلة المساكنية في حديثهم عن هذه الثورة التي شاركت فيها أربع وعشرون مدينة وقرية.. أما القناصل الأجانب فأطلقوا على ابن هذه المدينة الشيخ الدهماني البوجي لقب القائد الأعلى للثورة.. وهذا الأخير تمسك بمبادئه إلى النهاية بينما تخلى علي بن غذاهم عن مبادئه وراسل الباي مشيدا بعفوه ومطالبا بمنحه هنشير الروحية وتسمية أخيه عبد النبي واليا على ماجر.
فقد حاصرت جيوش الكتلة المساكنية ابتداء من يوم 24 جويلية 1864 مدينة سوسة تزامنا مع فترة استسلام علي بن غذاهم وطلبه الحصول على هنشير الروحية ولأخيه الحصول على منصب رفيع أي واليا لماجر .
ورفع الشيخ البوجي مطالب تنبئ عن تجذّر سياسي عميق ذكرها القنصل الإنجليزي وود في تقرير رفعه إلى الخارجية البريطانية تتمثل أساسا في عزل الصادق باي ووزيره خزندار وهما اللّذان كانا سببا مباشرا لانتصاب الحماية بعد أقل من عقدين في سنة 1881.
وقد تغلب جيش الباي الذي قاده الجنرال زروق على جيش الثوار إثر خدعة خسيسة فاستشهد القائد البوجي وعدد من رفاقه شنقا بأحكام جائرة وسلطت على سكان المدينة غرامات جائرة تقدر بنحو 60 بالمائة من مجموع الغرامات المسلطة على كافة سكان الساحل التونسي وافتُكّت أسلحتهم إلى حد أن الأرانب جارت على ضيعاتهم ولم يجدوا وسيلة لردعها مرددين القولة الشهيرة “روق ي لرنرب روق ورحّم على زروق لا ترك لنا مكحلة ولاشبوق” وقد وصف الباحث والرحالة الفرنسي دي كروكي في زيارة قام بها إلى مساكن قبيل انتصاب الحماية الفقر المدقع الذي أصيبت به المدينة بسبب غرامات زروق وصفا مؤثرا ولم يبخل المساكنية وأجوارهم رغم ما لحقهم من وهن عن مقاومة الجيش الفرنسي الغازي حيث أشارت تقارير عسكرية فرنسية إلى حدوث مناوشات في منطقة وادي لاية أسفرت عن مقتل جنود فرنسيين بينما تشير تقارير الأرشيف الوطني أن فرق المقاومة تتألّف أساسا من رجال قبائل البدو.
وقد سقط خلال هذه المناوشات التي جدت سنة 1881 شهيد من مساكن هو محمد الغماري .
ولا يسعني في السياق ذاته إلا أن أشير الى مشاركة مساكن الفاعلة في الحركة التحريرية إذ انخرط العديد من مناضلينا في الحركة التحريرية وأنجزوا أعمالا بطولية منها خاصة نصب كمين لقطار فرنسي أثناء مروره بغابة مساكن قبلة الوادي المالح وقتل قائد الحامية الفرنسية بالساحل الكلونال ديران أثناء انتفاضة 22 جانفي 1952 بسوسة من قبل الشهيد المساكني سالم الجربي الذي أعدمته سلطات الاستعمار.
وتستحضرني وأنا أحدثكم عن الحركة التحريرية مبادرة سكان مساكن الذين اقتنوا من جنود اللفيف الأجنبي الذين ارتكبوا المجزرة الفظيعة في مدينة تازركة حلي النساء التزركيات المغتصب والمسروق وجمعوا هذا الحلي وتوجهوا به إلى الباي طالبين إرجاعه إلى أصحابه رافضين قبول أي مقابل مادي .. ووصف الزعيم علي بلهوان هذه المبادرة الإنسانية المساكنية في كتابه ” تونس الثائرة ” قائلا “إنها كانت محل إشادة وتقدير ولهجت بها الألسن في كافة أنحاء الايالة التونسية”.
كما أبلت مساكن البلاء الحسن في حرب الجلاء عن بنزرت وقدمت شهداء أبرارا لتحقيق الجلاء العسكري عن أرض الوطن
وساهم أهالي مساكن مساهمة رائدة متميزة في إيقاف تجربة التعاضد الفاشلة التي تسببت في إفلاس البلاد وتردي الحالة الاجتماعية بها, وقاسوا لذلك ويلات التعذيب والحبس والإهانة واستشهد بعضهم كمدا بعد أن افتُكَّت زياتينه ونال أشد أنواع التعذيب والتنكيل .
ونذكر في السياق ذاته بطولات عسكريّين من مساكن منهم على سبيل الذكر لا الحصر العقيد المرحوم مصطفى حشيشة الذي تسلم الراية الوطنية في أكتوبر من سنة 1973 من الرئيس الحبيب بورقيبة ليقود الفوج التونسي الذي توجه إلى مصر لمساندة إخواننا المصريين ضد العدو الصهيوني .
ونشير في السياق ذاته أن أول فرقة للحلفاء اجتازت حدود ألمانيا من النازية سنة 1945 قادها المرحوم الرائد أحمد العابد المساكني الذي اقتحم بمبادرة منه دون انتظار الحصول على إذن من رؤسائه قرية “شايبن هالت” الألمانية وقد حصل لذلك على أربعة أوسمة من البلدان الحليفة، وهذا الحدث موثق في الأرشيف العسكري الفرنسي وكذلك في كتاب أبطال تونس Héros de Tunisie الذي صنفه المؤرخان الفرنسيان. Eric Dero et Pascal Le Pautremat.
ومافتئت مساكن تقدم التضحيات للوطن حيث استشهد بعض أبنائها البررة في مواجهتهم للاستبداد ونال الكثير من أبنائها العذاب والتنكيل في سبيل تجسيد القيم التي يمنوا بها وورثوها عن أجدادهم .
ألقى هذا الخطاب الكاتب والإعلامي القدير السيد كمال الشطي في الذكرى الـ 81 لعيد الشهداء بساحة الشهداء بمساكن بحضور والي سوسة عادل الشليوي ومعتمدة مساكن حليمة حمدي ورؤساء بلديّات ولاية سوسة.