لم تحتمل أم الطفل ناصر مصبح ابن الـ12 ربيعا الذي استشهد برصاص قناص صهيوني في غزة الوقوف على قدميها وهي تنثر الورود على جثمانه لتدخل في موجة من البكاء والعويل وهي تقبل جبينه تارة وتحتضن جسده الصغير تارة أخرى، وسط أنين النسوة اللائي جئن ليشددن من أزرها.
تتلمس الأم ملابس صغيرها وتتفحص تفاصيل جسده وتطيل النظر في وجهه فتهز رأسها يمنة ويسرة، ثم تضع يديها على جسد فلذة كبدها وتنطق كلمات موجعات “قتلوك يما قتلوك، مين بدو يكمل الحلم يما، قلت لي بدك تصير دكتور”.
تواصل الأم الغارقة في الحزن حديثها مع شهيدها الصغير غير عابئة بنداءات والده للاستعجال بنقله من منزله للصلاة عليه ومواراة جثمانه الثرى.
“حفظت القرآن كامل وقلت بدك تروح الجنة، روح يما عالجنة، حسبي الله ونعم الوكيل في القتلة المجرمين”.
دقائق ويحمل المشيعون جثمان الشهيد من داخل منزل عائلته ويخرجون به إلى المسجد الكبير في بلدة عبسان بخان يونس جنوبي القطاع ونظرات الأم وأبنائها تتابعه من شرفة المنزل حتى توارى المشيعون وهم يكبرون وينادون بالانتقام للشهيد.
وبينما تزداد لوعة الفراق لدى الأم وهي تقلب بعض مقتنيات ناصر ككتبه وألعابه وكراساته التي زينها ببعض كلماته تكاد شقيقته دعاء لا تصدق أنها لن تراه مجددا، وهو الذي ظل يرافقها في كل جمعة على الحدود لتعمل مسعفة متطوعة منذ بدأت مسيرات العودة قبل ستة أشهر.
تتابع دعاء والوجع يسيطر على محياها تسجيلا مصورا قصيرا لشقيقها وهو يبدع خلال مشاركته في مسابقة للخطابة حيث يرتدي الجلابية، والعمامة تزين رأسه لتستذكر لحظاتها الأخيرة معه.
وشهدت الجمعة الـ27 في مسيرات العودة المسماة “جمعة انتفاضة الأقصى” مواجهات وصفت بالساخنة بين المتظاهرين السلميين وجنود الاحتلال على حدود قطاع غزة، مما أدى إلى استشهاد سبعة فلسطينيين -بينهم طفلان- وإصابة أكثر من خمسمئة بالرصاص واستنشاق الغاز.
وفي مقابل منزل الشهيد ناصر كان أصدقاؤه ورفاقه في الحي والمدرسة يجلسون على الأرض وهم يبكون بشكل متواصل ولا يريدون تخيل أن صديقهم أصبح شهيدا، فمن سيعلم إبراهيم القرآن الكريم؟ ومن سيشارك أحمد لعبة الكاراتيه؟ ومع من سيذهب نائل في عطلة نهاية الأسبوع لتناول البوظة؟
بيد أن الطفل بلال أبو إسماعيل كان الأقرب إلى الشهيد والأكثر تأثرا بفقدانه بين رفاقه، حيث كان يضع رأسه بين قدميه وهو جالس على الأرض وتختلط كلماته بأنين صوته الحزين، وقلبه يغلي كالمرجل قهرا وغضبا.
“ليش قتلوه ليش، ما عمل إلهم شي” يقول الطفل متأوها، ويتابع وهو بالكاد يلتقط أنفاسه “هرب مرات كثيرة من القناصة وكان بيقول لا يمكن يطخوني، لكن الجنود ملاعين طخوه، وممكن يطخوني أنا لو رحت كمان مرة على الحدود”.
*الجزيرة