انقضى أكثر من نصف المدة النيابية منذ إجراء أول انتخابات بلدية في تونس، مدة كافية لتقييم هذه التجربة والوقوف عند نقاط وقوتها، ونقاط فشلها قصد المساهمة في تطويرها وتجاوز صعوباتها.
بلدية وادي مليز التابعة لولاية جندوبة، واحدة من 187 بلدية شملها التوسع في إطار تنفيذ مقتضيات الفصل 131 من دستور 2014 والقاضي بتغطية الجماعات المحلية كامل التراب الوطني، لضمان أكبر قدر من العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين في الوسطين الحضري والريفي.
ومع الانطلاق في هذا البرنامج، تضاعفت مساحة البلدية حوالي 10 مرات، حيث أضيفت لها كل من منطقة حكيم وسيدي مسكين والدخايلية، وكلها مناطق ريفية تفتقر إلى أبسط الخدمات البلدية.
خدمات نظمت وصنفت ورتبت وقدمت في شكل وعود انتخابية للقائمات المتنافسة هناك، لكنها لم تتجاوز كونها وعودا، إذ لم ترى النور حتى الآن رغم انقضاء أكثر من نصف المدة، ما جعل البلدية تفشل في تحسين واقع المناطق التي أضيفت إلى مجالها الترابي، التي لم تتطور إلا نحو الأسوأ رغم الوعود.
قمنا في هذا التحقيق بتقييم الفترة الأولى من عمل المجلس البلدي الحالي لبلدية وادي مليز، وذلك عبر متابعة الوعود التي قدمتها القائمة الفائزة بأغلبية المقاعد وهي قائمة نداء تونس التي فازت بـ 10 مقاعد من جملة 18 مقعدا، ومدى تقدم تطبيق الوعود التي تقدمت بها على أرض الواقع من خلال جملة من الزيارات الميدانية واللقاءات مع مختلف المتدخلين والمسؤولين في البلدية.
بدايتنا كانت بجولة في منطقة الدخايلية، حيث يراوح الحال نفسه قبل التوسعة وبعدها، إذ مازالت تفتقر إلى أبسط المرافق الأساسية والخدمات البلدية.
الحال ذاته يتكرر في منطقتي حكيم وسيدي مسكين، أو أسوأ بقليل، حيث لا حاويات للتخلص من الفضلات، ولا تنوير عمومي ولا فضاءات عائلية ولا ترفيهية ولا مسالك صالحة لتنقل الأطفال وكبار السن.
واقع صعب مشترك بين هذه المناطق نرصده في هذا الريبورتاج.
عندما انطلقت فكرة الانتخابات البلدية وما رافقها من دعايات عن ترسيخ الحكم المحلي وعن ضرورة التخلي شيئا فشيئا عن مركزية القرار، أكبر العوائق أمام تنمية المناطق الداخلية نظرا لبعدها عنها وعدم معرفتها بخصائصها.
لكن مع انقضاء هذه المدة، كُشف الفرق بين ما قيل وما وجد، فلا واقع تغير ولا خدمات جديدة أضيفت للمناطق التي شملتها التوسعة، وهو ما جعل المواطنون يفقدون الثقة في هذه التجربة الفريدة، التي لم تحقق لهم مطالبهم وانتظاراتهم، ولم تلتزم فيها بوعودها، إذ لم يُنجز ما يمكن أن يُحدث فرقا أو يدل على أن هذه المناطق أصبحت مناطق بلدية.
فشل التغيير فجرته عاصفة الاستقالات
لم تستثن عاصفة الاستقالات البلدية، المجلس البلدي بوادي مليز رغم بوادر الانسجام التي ميزت انطلاقته، ليلعن بتاريخ 09 أوت 2021 أربعة من أعضائه عن استقالتهم.
استقالة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تضمنت ما ظهر منها من أسباب، لكنها أخفت إشكاليات ونقائص وصعوبات أعمق، تعرقل وتعيق عمل المجالس البلدية في تونس بصفة عامة.
إن ما تعيشه البلديات من صعوبات مالية ونقائص لوجستية وبشرية، ساهم بشكل كبير في ضعف الأداء البلدي، وإلى جانب غياب التجانس بين أعضاء المجلس البلدي فإن هذه الصعوبات تتضاعف ويصعب حلها، بل أن تجاوزها يصبح من المهمات الصعبة.
زّد على ذلك ما تتضمنه مجلة الجماعات المحلية من هينات ونقائص وفراغات وثغرات قد تسرع في إجهاض هذه التجربة قبل نهايتها ما لم يتم تدخل الدولة لمعالجة جملة هذه الإشكاليات.
أحد الأعضاء المستقيلين، محمد نبيل حكيمي، المساعد الثاني لرئيس بلدية وادي مليز سابقا، أشار في حديثه لـ “مراسلون” لجملة من الإشكاليات التي تعاني منها مجلة الجماعات المحلية، التي ساهمت عبر التراكمات في إعاقة عمل المجلس وجعلهم غير فاعلين وعاجزين عن إحداث التغيير.
يقول محمد نبيل “كأننا مجرد صورة جامدة نحن أعضاء المجلس البلدي”، وهو ما جعل الاستقالة بالنسبة لهم خيار لا مفر منه رغم تأجيله عديد المرات.
وأشار الحكيمي إلى بعض الإشكاليات الأخرى التي تتضمنها المجلة وخاصة المتعلقة منها بالصلاحيات، حيث تعطي لرئيس البلدية تقريبا كل الصلاحيات، مقابل تهميش دور أعضاء المجلس البلدي وإقصائهم من اتخاذ القرارات ذات الأهمية.
ويقول في هذا السياق “في الشراءات على سبيل المثال لا تتم الصفقة إلا بعد التصويت واكتمال النصاب وغيره من الإجراءات التي تستوجب بالضرورة المرور عبر المجلس البلدي، فيما أن بعض المهمات الأخرى على غرار التعيينات والإلحاق والتعويض قد يفاجأ بحدوثها أعضاء المجلس البلدي مثلهم مثل العامة”. ويتابع قائلا: “في مثل هذه النقاط قد لا يحتاج رئيس البلدية إلى أن يعود للمجلس البلدي لأخذ القرار، وهو تقريبا ما حدث في بلدية وادي مليز عندما عارضنا إلحاق أحد العمال، إلى حين تفاجئنا بمباشرته العمل بالبلدية”.
ويضيف الحكيمي: “منذ انطلاقة المدة النيابية للمجلس البلدي الحالي لم أجد ما أرغب في أن يجده عضو مجلس بلدي يرغب في خدمة منطقته، لا من حيث الظروف ولا من حيث التشريعات والإمكانيات”.
واعتبر محدثنا أن الدولة التونسية تسرعت في إرساء هذا النوع من الحكم “الحكم المحلي” ما اضطرها لصياغة مجلة الجماعات المحلية. ويقول “كلنا نتذكر كيف كان هناك استعجال في تمرير الفصول على التصويت، دون مناقشات موسعة ودون دراسات معمقة أو تقييم لمآلاتها وتبعاتها مع مرور الزمن”.
كل ذلك جعل مجلة الجماعات المحلية اليوم نموذجا للفصول المنقوصة والمبتورة والتي تعارض وتناقض نفسها، واحتواء المجلة لهذه الإخلالات ساهم في تعميم كل الإشكاليات على نسبة هامة من البلديات على تنوعها وعلى اختلاف تركيبة مجالسها.
ويشارك محمد نبيل الحكيمي بقية الأعضاء المستقيلين الذين تحدثوا في هذا التقرير عن بقية الأسباب الأخرى التي جعلت الاستقالة خيارهم الوحيد رغم تأجيلها عديد المرات.
تسعى الدولة من خلال اختيارها الانطلاق في إرساء نظام الحكم المحلي، إلى معالجة الخلل الهيكلي للتوزيع الديمغرافي والجغرافي للبلديات، حتى يمكن لـ 100 % من التونسيين اختيار من يمثلهم محليا والمشاركة في الانتخابات البلدية بعد أن كان هذا الاختيار يقتصر فقط على المواطنين التابعين للمناطق الحضرية، والبالغ عددهم حوالي 7.5 مليون من أصل 11 مليون تونسي متمركزون في 10 % فقط من المساحة.
إلى جانب العمل على خلق فضاءات بلدية تتلاءم مع مقتضيات التنمية المحلية من حيث تعزيز الموارد الذاتية والترفيع من القدرة على الاستثمار وممارسة الصلاحيات الجديدة في إطار اللامركزية.
وعدت الدولة بتكفلها بتمويل مخططات الاستثمار لفائدة البلديات الجديدة أو التي وقع إدماج فضاءات ريفية بها من خلال تخصيص موارد مالية إجمالية بقيمة 750 م د، لكن كل هذا لم يتلاءم مع الواقع الحقيقي للبلديات من جهة ولواقع الدولة بصفة عامة، لتجد البلديات نفسها في مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية كبرى، زادتها حالة عدم الاستقرار السياسي صعوبة وتعقيدا، زد على ذلك المصاريف الإضافية التي تحتاجها مناطق التوسع التي تفتقر لأي موارد يمكن أن تدرها على البلدية، كما لم تلتزم الدولة بتقديم الدعم والإحاطة والمرافقة اللازمة والتي وعدت بها حتى تحقق البلدية ما وعدت به هي الأخرى.
وفي حديثه لـ”مراسلون” تطرق رئيس بلدية وادي مليز هشام المرزوقي إلى جملة من الإشكاليات والصعوبات التي تعيشها البلدية اليوم في مختلف المجالات، معبرا عن استياءه من الواقع الذي وصلت إليه البلديات نتيجة الاختيارات الخاطئة للدولة التي لم تدرس جيدا خيارات الحكم المحلي ولم توفر حاجياته حتى يتم إرسائه وفق أسس قوية، معتبرا أيضا أنه من الظلم الحكم وعلى مدى نجاح تونس في إرساء اللامركزية عبر هذه التجربة، لأنها إلى حد الآن تجربة مليئة بالأخطاء والهينات، والاعتماد على ما حققته من أرقام ومؤشرات لتقييمها سيجهضها ويقلل فرصة الخوض فيها والتشجيع عليها في المستقبل.
وكأنها سلسة مترابطة، الكل يعد ُوالكل لا يلتزم بالتنفيذ، بدءا من الدولة في أعلى الهرم ووصولا إلى البلديات في أسفل هرم السلطة.
الدولة التي تفاخرت بانطلاقها في إرساء نظام الحكم المحلي وشرعت في إبراز خصاله وميزاته، ومحاولاتها في كل مرة أن تضخيم مجهوداتها ومساهماتها، تُخفي اليوم تقصيرها في إصدار جملة من الأوامر الترتيبية لهذا المنظومة (صدور 11 أمر فقط من جملة 38 أمر مبرمج في مجلة الجماعات المحلية).
كما أن عدم تسجيل العقارات التابعة لمناطق التوسع في دفتر التحصيل مثل عائقا يحول دون إمكانية استفادة البلدية من الأداءات من الموارد الخاصة بها.
ومثل بقية السلط المركزية والجهوية، يساهم ضعف الموارد وجملة الإشكاليات السالف ذكرها، إلى جانب غياب التجانس في تركيبة المجالس البلدية، في فشل عملها، على غرار المجلس البلدي بوادي مليز الذي أخفق في تحسين أو تغيير واقع مناطق التوسع التي أضيفت إلى المجال الترابي للبلدية.
كما لم تكن مجلة الجماعات المحلية الصادرة في 2018 على قدر تطلعات أعضاء المجالس البلدية والمواطنين على حد السواء، فكانت صياغتها في عديد من المجالات غامضة، ما ساهم في تفكيك المجالس منذ تنصيبها، خاصة بسبب عملية توزيع اللجان بين القائمات، ما تسبب في تعكر الأجواء وظهور الانشقاقات سريعا ما تحولت إلى قضايا واستقالات.
كل ذلك جعل من رؤساء البلديات وأعضاء مجالسها والمواطنون يعلنون صراحة أن الدولة حاولت، عبر هذه التجربة، التخلص من مسؤوليتها في تحسين واقع المناطق الداخلية والمناطق المهمشة، لتلقي بالبلديات في فوهة بركان من المطالب الشعبية الملحة والحالمة بواقع أفضل.
مطالب يتفق الكل حول شرعيتها، لكن الكل أيضا يتفق على أنها لا تتناسب مع قدرات الغالبية العظمى من البلديات بتركيباتها وقدراتها المالية واللوجستية الحالية، وخاصة بمجلة قانونية هشة غير قادرة إيجاد حلول وتلافي المعوقات.
أنجزا هذا العمل في إطار برنامج مراسلو الديمقراطية المحلية “مراسلون” تحت إشراف المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية IFES
أحمد كحلاني – مراسلون